
ابن خلدون في قلب العالم وعقله
عرض بول كروغمان (الحاصل على نوبل في الإقتصاد) في مدونته، أطروحة ابن
خلدون الرئيسية حول "العصبية"، والتي "تمثل الرابطة التي تقوم على مختلف
مستويات الحضارة، من المجتمع البدوي وحتى الدول والإمبراطوريات. والعصبية
أقوى ما تكون في مرحلة البداوة، وتقل مع التقدم الحضاري. وفيما تنحدر عصبية
تنشأ عصبية أخرى أشد قسراً قد تأخذ مكانها، وهكذا تقوم الحضارات وتنهار.
كل عصبية (أو حضارة) تحمل في طياتها بذور سقوطها".
ووصف ابن خلدون " ظهور العصبيات في أطراف الإمبراطوريات
العظمى. ويترتب على ذلك أن الحكام الجدد يُعتبرون في البداية برابرة
بالمقارنة مع السابقين. وعندما يؤسسون أنفسهم في مركز إمبراطوريتهم يصبحون
متراخين بشكل متزايد، وأقل تنسيقاً، وانضباطاً ويقظة، ويركزون اهتمامهم على
إدامة قوتهم الجديدة، وطراز حياتهم في مركز الإمبراطورية، فيما يتفكك
التحامهم الداخلي وروابطهم بالجماعة السابقة في الأطراف، وتنحل العصبية في
نزعات طائفية وذاتية، وتضعف قدرتها كوحدة سياسية. وهكذا تنشأ ظروف يمكن
خلالها لسلالات جديدة الظهور في الأطراف التي تسيطر عليها، وتزداد قوة،
وتفرض تغييراً في الزعامة تبدأ دورة جديدة".
"قال العبدُ الفَقيرُ إلى الله تعالى الإمام العالم العلامة شيخ مشايخ الإسلام..
الإمام ولي الدين أبو زيدٍ عبدُ الرحمن بنِ محمد بنِ خَلدون متع الله بعلومه آمين". هكذا يُستهل كتاب "مقدمة بنِ خلدون" الذي وجد فيه بول كروجمان الحائز على نوبل في الاقتصاد تفسير تدهور "مايكروسوفت" أكبر شركة صناعات الكومبيوتر في العالم. وأردد عبارة ابنِ خلدون في قلبي كلما أعثر على ما وجده في كتابه علماء بالاقتصاد، والاجتماع، والتاريخ، والسياسة، والبيولوجيا، والرياضيات.
"تدهور إمبراطوريات الصناعات الإلكترونية" عنوان مقال كروجمان في"نيويورك تايمز"
والذي استعاد تاريخ سيطرة "مايكروسوفت" منذ عام 2000 على سوق صناعة الكومبيوتر، بفضل برامج أجهزتها "ويندوز" التي تتيح لها التشارك مع الشبكات الخارجية، والأجهزة الطرفية، وهذه تعمد بدورها إلى استخدام برامج مايكروسوفت للسبب نفسه؛ يعني "كل شخص يستخدم "ويندوز" لأن كل شخص يستخدم "ويندوز". نجاح مايكروسوفت حقق لها السيطرة الاحتكارية ، والاطمئنان إلى أن أحداً لن يستطيع منافستها حتى طرحت منافستها "آبل" جهاز "آي باد آبل"، الذي باعت منه ثلاثة ملايين قطعة في ثلاثة أيام، فيما لم تحقق "ألواح مايكروسوفت" سوى مليون ونصف مليون قطعة خلال ثمانية شهور. واضطر بولمر، رئيس "مايكروسوفت" للاستقالة. "كيف عميت مايكروسوفت" عن رؤية ذلك"، يسأل كروجمان ويجيب "هنا يأتي دور ابن خلدون. فهذا الفيلسوف المسلم من القرن الرابع عشر الميلادي اخترع ما تُدعى اليوم علوم الاجتماع. ومكنّته بصيرته التي قامت على تاريخ موطنه في شمال إفريقيا من اكتشاف وجود إيقاع لصعود وانحدار السلالات الحاكمة". والدور الكبير في ذلك تلعبه "القبائل الصحراوية التي تملك دائماً شجاعة والتحاماً اجتماعياً أكبر من السكان المستقرين، لذلك تكتسح بين وقت وآخر البلدان التي يصبح حكامها فاسدين ومتنعمين".
ونقل كروغمان الموضوع إلى مدونته، وفيها عرض أطروحة ابن خلدون الرئيسية حول "العصبية"، والتي "تمثل الرابطة التي تقوم على مختلف مستويات الحضارة، من المجتمع البدوي وحتى الدول والإمبراطوريات. والعصبية أقوى ما تكون في مرحلة البداوة، وتقل مع التقدم الحضاري. وفيما تنحدر عصبية تنشأ عصبية أخرى أشد قسراً قد تأخذ مكانها، وهكذا تقوم الحضارات وتنهار. كل عصبية (أو حضارة) تحمل في طياتها بذور سقوطها". ووصف ابن خلدون " ظهور العصبيات في أطراف الإمبراطوريات العظمى. ويترتب على ذلك أن الحكام الجدد يُعتبرون في البداية برابرة بالمقارنة مع السابقين. وعندما يؤسسون أنفسهم في مركز إمبراطوريتهم يصبحون متراخين بشكل متزايد، وأقل تنسيقاً، وانضباطاً ويقظة، ويركزون اهتمامهم على إدامة قوتهم الجديدة، وطراز حياتهم في مركز الإمبراطورية، فيما يتفكك التحامهم الداخلي وروابطهم بالجماعة السابقة في الأطراف، وتنحل العصبية في نزعات طائفية وذاتية، وتضعف قدرتها كوحدة سياسية. وهكذا تنشأ ظروف يمكن خلالها لسلالات جديدة الظهور في الأطراف التي تسيطر عليها، وتزداد قوة، وتفرض تغييراً في الزعامة تبدأ دورة جديدة".
ويذكر كروجمان أنه تعرف على أعمال ابن خلدون من خلال أبحاث العالم الروسي الأميركي "بيتر تورتشن"، أستاذ البيولوجيا التطورية في جامعة "كنتيكت" بالولايات المتحدة، وواضع نظرية "ديناميات التاريخ" التي تعتمد على النمذجة "الرياضياتية". وينفرد "تورتشن" بفهم خاص لنظرية "العصبية" التي يعتبرها أعظم المساهمات العلمية لابن خلدون، ويرى فيها التضامن الجماعي والتعاون الاجتماعي. ويشرح ذلك في كتابه "الحرب والسلم والحرب"، وفيه يبرهن على أن "ابن خلدون يختلف تماماً عن كبار المفكرين الأوروبيين مثل ميكيافيلي، وهوبس، وهيوم، وآدم سميث، الذين قادت مساهماتهم العظيمة إلى نظرية الاختيار العقلاني"، وانتهت، حسب تقديره بالطريق المسدود لما يسمى "الكائن الإنساني الاقتصادي". وفي دراسة في المجلة العلمية "نيوساينتست" عنوانها "العنف المحسوب: الأرقام التي تتنبأ بالثورة" استخدم "تورتشين" الرياضيات ونظرية ابن خلدون لتحويل التاريخ من حشد حكايات إلى علم صارم قادر على التنبؤ. وإذا صحت تنبؤاته فالولايات المتحدة مقبلة على اضطرابات أهلية كبرى وعنف سياسي في وقت ما نهاية العقد الحالي.
والعصبية في لسان العرب هي "أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب على من يناوئهم ظالمين كانوا أومظلومين". إلاّ أن أطروحة ابن خلدون عن "العصبية" بالغة التعقيد كأطروحة الفيلسوف كارل ماركس "رأس المال". وكان عالم الاجتماع العراقي علي الوردي قد شكا من صعوبة فهمها، واعترف في كتابه "منطق ابن خلدون" بأنه قرأ "المقدمة "عدة مرات بإمعان واستقصاء، وفي كل مرة يقرأها يكتشف وجهاً جديداً من آراء ابن خلدون. "ومن يدريني فلربما كنت حتى الساعة بعيداً عن فهم ابن خلدون كما هو في حقيقة أمره". وتمر علوم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ حالياً على الصعيد العالمي بلحظة "الربيع العربي"، وفي القلب منها ابن خلدون الذي "حاول أن يفلسف التاريخ الإسلامي على عهده. وهي محاولة فريدة حقاً لا نجد لها مثيلاً في تراثنا العربي الفكري على ضخامته، وتنوع منازعه، وتعدد مشاربه". يذكر ذلك المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه "فكر ابن خلدون: العصبية والدولة". ويأخذنا الجابري إلى قلب النظريات الخلدونية التي تعبر عن ممارسة اجتماعية ومعاناة نفسية، وتفجير الطاقات التي جندتها هذه المعاناة. ويعرض في كتابه تفاصيل حميمية من حياة ابن خلدون الذي لم يكن كاتباً يسجل يومياته واعترافاته، ولا باحثاً يستقرئ أحاديث وعلوم الأولين، بل كان رجل سياسة عمليا عاش في خضم الحياة العامة لممالك وقبائل شمال أفريقيا، وشغل مناصب رسمية وقضائية عدة، بينها منصب الحجابة التي تعادل رئيس الوزراء، ووسيطاً مفاوضاً بين القبائل والحكام، وبينهم وملوك إسبانيا، وعرف التشرد والنفي واللجوء والسجن، "واستنطق خلال ذلك كله تجربة العصر وتجربته الشخصية معاً، واستفتى أحداث التاريخ، وآراء من دخلوا التاريخ من باب الفكر الواسع فصاغ من ذلك كله آراء ونظريات قديمة كأجزاء جديدة ككل".
وابن خلدون اليوم في قلب العالم وعقله، وفي آخر لقاء بالجابري بالطائرة من أبوظبي، حيث ساهمنا في المؤتمر السنوي لصحيفة "الاتحاد" عام 2010 لم يخطر ببالي أنها رحلة الوداع، ولو مكث الجابري قليلاً لوجد الجواب عن أسئلة اختتم بها كتابه عما إذا كان "هناك انقطاع حقاً بين تاريخ ابن خلدون وعهد ما بعد ابن خلدون، وألا نجد في تحليلات ابن خلدون ما يلقي بعض الأضواء على جوانب من تاريخنا الحديث وواقعنا الراهن؟ وألا نجد ملامح ذلك التناقض المزمن في حياتنا الجارية الآن". فأنّى التفتنا اليوم نقرأ عبارة ابن خلدون الأثيرة للجابري :"وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة".